لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، جمعت قريش لبنيان الكعبة . وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ، ويهابون هدمها . فأرادوا رفعها وتسقيفها . وذلك أن قومًا سرقوا كنز الكعبة .
وكان في بئر في جوف الكعبة . وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت .
فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها . وكان بمكة رجل قبطي نجار .
فهيأ لهم بعض ما كان يصلحها . وكانت حَيّةٌ تخرج من بئر الكعبة التي كان يُطرح فيه ما يهدى لها كل يوم ، فتتَشَرَّقُ على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون . وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَألّت وكَشّت وفتحت فاها . فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها . فذهب بها . فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب . وقد كفانا الله الحية . . فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها : قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي فتناول من الكعبة حجرًا .
فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا ، لا يدخل فيها مَهْر بَغِي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس . ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شِق الباب : لبني عبد مناف وزهرة . وما بين الركن الأسود واليماني : لبني مخزوم ، وقبائل من قريش انضافت إليهم . وكان ظهر الكعْبة : لبني جُمَح وبني سَهْم . وكان شق الحِجْر : لبني عبد الدار ، ولبني أسد بن عبد العزى ، ولبني عدي . وهو الحطيم .
ثم إن الناس هابوا هدمها ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول . ثم قام عليها . وهو يقول : اللهم لا تُرَعْ - أو : لم نَزِغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين . فتربص الناس تلك الليلة .
وقالوا : إن أصيب ، لم نهدم منها شيئا .
ورددناها كما كانت ، وإلا فقد رضي الله ما صنعنا .
فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله . فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة ، أخذ بعضها بعضا .
فأدخل بعضهم عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما .
فلما تحرك الحجر : انتفضت مكة بأسرها . فانتهوا عند ذلك الأساس .
ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الحجَر الأسود . فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه ، حتى تحاوروا وتحالفوا ، وأعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جَفنة ، مملوءة دمًا . تعاهدوا - هم وبنو عدي بن كعب - على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم .
فسموا " لَعقَة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال ، أو خمسا .
ثم إنهم اجتمعوا في المسجد . فتشاوروا وتناصفوا .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة فلما بلغوا خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة .